بقلم: أحمد سعيد حسانين - صحافي مصري
عن موقع اندبندنت عربية
ملخص
أجمع عديد من المتخصصين في مجال التخطيط والاقتصاد العمراني ممن تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" على أن هناك تحديات وعقبات عديدة تواجه المجتمعات العمرانية الجديدة في مصر، بصورة "انعكست سلباً" على معدلات الجذب السكاني ونسب الإشغال فيها، من بينها "عدم توافر فرص عمل وخدمات وبنية أساس وشبكة مواصلات قوية"، مما جعلها ملاذاً للمواطنين لـ"الادخار والاستثمار لا السكن".
أظهر مسح للمدن الجديدة في مصر أصدره مرصد العمران المتخصص بقضايا السكن مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري حول أعداد قاطنيها، أن 1.7 مليون شخص يسكنون تلك المدن التابعة لهيئة المجتمعات العمرانية، مما عده المسح "تراجع نسب الإشغال والجذب السكاني بالمدن الجديدة".
ووفق المسح العمراني الذي اختص المدن الجديدة والأراضي الخاضعة لقانون الهيئة رقم 59 لسنة 1979 منذ إنشاء الهيئة وحتى منتصف العام الحالي التي بلغت 49 مدينة جديدة، فإن تلك النسبة "صغيرة جداً" من القدرة الاستيعابية لكل هذه المدن و"استغلال أقل" من الأمثل لمليارات الجنيهات التي أنفقت عليها.
وشدد المسح على دراسة "الموانع الاجتماعية والهيكلية" التي أدت إلى عدم جذب المدن للسكان والعمل على حلها، التي قد تتطلب "الاستثمار في مزيد من الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة والتنقل العام". مطالباً بـ"إعادة النظر في سياسة تنمية المدن الجديدة لرفع قدرة استيعابها للسكان، بدلاً من توسيع المدن وبناء الجديد منها".
وأجمع عديد من المتخصصين في مجال التخطيط والاقتصاد العمراني ممن تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" على أن هناك تحديات وعقبات عديدة تواجه المجتمعات العمرانية الجديدة في مصر، بصورة "انعكست سلباً" على معدلات الجذب السكاني ونسب الإشغال فيها، من بينها "عدم توافر فرص عمل وخدمات وبنية أساس وشبكة مواصلات قوية"، مما جعلها ملاذاً للمواطنين لـ"الادخار والاستثمار لا السكن".
هل أهداف الحكومة غير واقعية؟
في البداية، يتصور عميد كلية التخطيط العمراني السابق بجامعة القاهرة عباس الزعفراني أن الحكومة المصرية وضعت "أهدافاً غير واقعية" ورفعت سقف الطموحات أكثر من المتوقع حينما فكرت في إنشاء تلك المدن، مشيراً إلى أن المجتمعات الجديدة "تأخذ عشرات السنوات حتى تحقق الأهداف المنشودة من ورائها مثلما يحدث في أية مدينة جديدة بالعالم". مستشهداً بمدينة الإسماعيلية الجديدة التي وصل عدد قاطنيها إلى 150 ألف نسمة بعد قرابة 100 عام من إنشائها.
وعن أسباب عدم انجذاب المصريين إليها، يقول الزعفراني "افتقار المدن الجديدة لشبكة مواصلات قوية داخلياً وخارجياً قادرة على ربطها بالمدن الأم والمحافظات الكبرى وضواحيها أحد الأسباب، فمدن الجيل الأول حينما أنشئت كانت تعتمد على السيارات الخاصة بالملاك أو باصات المدن الصناعية، ولم تكن هناك شبكة مواصلات قادرة على توفير عمليات التنقل من مكان إلى آخر".
ويستشهد أستاذ التخطيط بمدينة "المقطم" التي كانت غير مأهولة بالسكان خلال بدايات فترة إنشائها، ومع بناء مساكن الزلزال أصبح سكان تلك المناطق يستقلون شبكات المواصلات التي تمر في مدينة المقطم بصورة دورية، مما أسهم في إحياء تلك المدينة فأصبحت على خريطة الاستثمار العقاري، ويقصدها عديد من المواطنين للسكن والمعيشة.
ويشير الزعفراني خلال حديثه لـ"اندبندنت عربية" إلى أن المدن الجديدة تفتقر إلى "عدم وجود نواة عمرانية قائمة أو مناطق خدمات متكاملة بجوار المدن التي أنشئت، إذ أصبح من الصعب على المواطن أن يقطن الصحراء ويترك العمران دون أن يكون هناك مراكز خدمية توفر له أبسط حاجاته"، إضافة إلى أن اقتصار فرص العمل على فرصة واحدة فقط لرب الأسرة "صعب المهمة كثيراً على عديد من العائلات التي كانت راغبة في الانتقال من الحضر أو الريف إلى المدن الجديدة"، مؤكداً أنه "كان من الأجدى على مؤسسات الدولة أن توفر فرص عمل مركبة لأكثر من فرد بالعائلة الواحدة، حتى يستطيعوا العيش بأمان والإنفاق على أنفسهم، مما جعل هناك صعوبات في رغبة كثير من العمال في الانتقال للمدن الجديدة".
ويتطرق الزعفراني إلى التفرقة الطبقية بين مدن الجيل الرابع وما سبقها، إذ المستهدف فيها السكن لأصحاب الرواتب العليا في المجتمع ولا توفر مساحة مناسبة لفئات محدودي ومتوسطي الدخل، وهو ما يجعل العامل أو الموظف في تلك المدن "يتكبد عناء ومشقة الطريق ليذهب من مكان إقامته الأصلية إلى تلك المدن الجديدة، مشدداً على ضرورة "أن تتضمن المدن الجديدة أحياء لمختلف المستويات العليا ومتوسطي ومحدودي الدخل وتوفير مراكز خدمية لتلبية حاجاتهم".
المعوقات الاجتماعية التي سردها أستاذ التخطيط تتطابق مع رواية أحد المستفيدين من شقق المدن الجديدة، إذ يقول أحمد عبدالغني إنه كان أمام خيارين، إما الاستقرار في نفس مكان إقامة أسرة زوجته بحي الدقي أو الانتقال للعيش بمدينة حدائق أكتوبر الجديدة، لكنه فضل الخيار الأول.
ويفند المواطن المصري عدم ذهابه إلى حدائق أكتوبر بأن غالب الخدمات بالمنطقة "ليست مكتملة" وأن هناك مشكلات متكررة تتعلق بـ"انقطاع التيار الكهربائي والمياه بصفة مستمرة، فضلاً عن غلاء أسعار وسائل التنقل بين المناطق وبعضها بعضاً، علاوة على طول المسافة التي سيتطلب قطعها في الطريق من تلك المدينة الجديدة إلى مقر العمل بوسط البلد بميدان رمسيس، التي قد تتخطى ساعتين".
وعليه قرر عبدالغني "الاستقرار في مكان إقامة أسرة زوجته بالدقي بمحافظة الجيزة نظراً إلى توافر الخدمات والبنية الأساس، التي كانت من العوامل الرئيسة في حسم قراره، مفضلاً الزحام والتكدس السكاني بالدقي على الهدوء بالمدينة الجديدة".
المصريون يرتبطون بمدنهم الأصلية
ومن جانبها تربط أستاذ جغرافيا المدن وتخطيطها بكلية الدراسات الأفريقية عزيزة بدر نجاح مدينة جديدة بمقومات وعناصر أساس مثل "فرص العمل، وتوافر الخدمات بمختلف أنواعها الصحية والتعليمية والتجارية والترفيهية والرياضية"، علاوة على توفير الأنشطة "المحفزة للنمو السكاني مثل إنشاء مناطق صناعية ومولات تجارية".
وتشير بدر إلى أن "كثيراً من المواطنين لا يزالون مرتبطين بمدنهم الأصلية مثل القاهرة والجيزة ولا يرغبون في الذهاب إلى السكن بالمدن الجديدة، بسبب معوقات التنقل وكلفته ونقص الخدمات". مشددة على أنه إذا "لم يكن هناك عناصر محفزة للسكن لن يذهب المواطن للاستقرار بالمدن الجديدة".
وتستشهد أستاذ الجغرافيا بأنه حينما أنشئت مدينة 6 أكتوبر كانت تشهد تراجعاً واضحاً في معدلات جذب السكان، نظراً إلى لجوء المواطنين حينها إلى شراء وحدات سكنية بغرض الاستثمار، معتبرين إياها بمثابة السكن الثاني مع الاحتفاظ بالعيش في مدينتهم الأصلية، لكن مع تزايد الخدمات ومقومات الحياة بتلك المدينة الجديدة أصبحت مكاناً يضم منطقة صناعية ومولات تجارية وجامعات ومراكز تجارية وأنشطة ترفيهية، باتت تشهد نسبة إشغال عالية خلال الوقت الراهن.
وبحسب المسح العمراني فإن أعلى نسبة استيعاب سكان للمدن الجديدة في محافظتي القاهرة والجيزة بخمسة في المئة من سكان المحافظتين، بينما جاء في المرتبة الثالثة المدن الجديدة في محافظة الشرقية بـ4.2 في المئة، وفي المرتبة الرابعة دمياط بـ3.4 في المئة، وجاءت أقل نسب الاستيعاب السكاني في محافظتي سوهاج وأسوان، إذ بلغت نسبة السكان الذين يعيشون في المدن الجديدة 0.01 في المئة فقط من سكان المحافظتين.
وفي شأن توافر فرص العمل بالمدن الجديدة يحكي الأربعيني محمد كمال الذي انتقل بأسرته قبل ثلاثة أعوام للعيش في مدينة العبور بعدما كان يسكن منطقة عين شمس، أنه بمجرد الانتقال إلى تلك المدينة وجد كثيراً من الفرص المتاحة التي تلائم طبيعة عمله (يعمل كهربائياً)، مشيراً إلى أنه على رغم قلة الخدمات ووسائل التنقل نسبياً مقارنة بالقاهرة، فإنه استطاع وأسرته خلال فترة وجيزة التأقلم مع أجواء المدينة الجديدة.
ودائماً ما تجد فئة الفنيين والصنايعية فرص عمل محدودة داخل المدن الجديدة، نظراً إلى أن غالبية الشقق تحتاج إلى بعض التجهيزات التي يصعب على أصحاب الشقق اصطحاب عمال وفنيين من المدن القريبة إليها، ومن ثم يكون لتلك الفئة نصيب وافر من فرص العمل، لكنه يتقلص تدريجاً بمرور الوقت إذ إنها فرص عمل موقتة اعتمدت على جهود فردية وليست مؤسسية.
وفي السياق ذاته يجزم أستاذ جغرافيا المدن بجامعة القاهرة أحمد حسن بأن المجتمعات العمرانية الجديدة "لم تحقق الأهداف المنتظرة منها في تخفيف الضغط والكثافة السكانية عن العاصمة المصرية القاهرة"، مؤكداً أن "التخطيط سليم على الورق فحسب لكن لم نتقن التنفيذ أثناء إنشاء تلك المدن، إذ اتجهنا بعيداً مما وضعه المخطط نفسه وهو ما تسبب في الأزمة الراهنة".
ويوضح حسن مؤلف كتاب "المدن الجديدة بين النظرية والتطبيق" خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "المدن الجديدة حينما أنشئت كان المستهدف أن يكون هناك نشاط اقتصادي وصناعي ملحق بها لتوفير فرص عمل وسكن ملائم للشباب لكن هذا لم يحدث، إذ نجحت مؤسسات الدولة في خلق مناطق صناعية جديدة لكنها أخفقت في إيجاد حلول لمشكلة السكن، وأصبح كل عمال المناطق الصناعية في المدن الجديدة وافدين من القاهرة أو مدن مجاورة لها ولا يقطنون المدن الجديدة".
ويشير أستاذ جغرافيا المدن إلى أن هناك مدناً كان المفترض أن يتخطى عدد سكانها 200 ألف نسمة مثل العاشر من رمضان لكن جرى بناء نصفها فحسب، نظراً إلى أن ما وضعه المخطط "لم يتم تنفيذه، فكان لا بد أن يكون هناك حساب سليم لكيفية التمويل قبل الشروع في الإنشاء"، مؤكداً أن "هناك مدناً استطاعت أن تنجح مثل 6 أكتوبر لكن هناك مدناً أخرى مثل العاشر من رمضان والسادات فشلت بصورة كبيرة، ولم تحقق الهدف المنشود".
ووفق تقرير لشركة "كوليرز إنترناشيونال" المتخصصة في مجال العقارات التجارية صدر مطلع نوفمبر 2020، فإن المدن الجديدة في مصر تواجه تحديات في جذب مزيد من السكان إليها على رغم الزيادة السكانية السريعة، باستثناء عدد قليل من المدن لا تتجاوز معدلات الإشغال داخل غالبيتها 30 في المئة، وفقاً لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وبخاصة مدن الجيل الأول والثاني التي أطلقت خلال السبعينيات والثمانينيات، إذ يبلغ متوسط الإشغال في مدن الجيل الأول 43 في المئة والجيل الثاني 23 في المئة، بينما تكافح مدن الجيل الثالث لتجاوز نسبة 15 في المئة.
ومن جهته يقول استشاري التخطيط العمراني وائل يوسف أن نسبة الإشغال في المدن الجديدة قبل أكثر من 10 أعوام كانت تمثل نحو 20 في المئة، لكن حالياً تضاعفت تلك النسبة لتصل إلى 40 في المئة، وعلى رغم أن المدن الجديدة أصبحت جاذبة نسبياً للسكان مقارنة بأعوام نشأتها الأولى، فإنها "لا تزال تحتاج إلى مزيد من الإنفاق والاستثمارات لتصل معدلات النمو والجذب السكاني فيها إلى نسب تراوح ما بين 60 و70 في المئة".
وفي رأي يوسف فإنه حتى يحدث جذب سكاني فإن الأمر "يتطلب ربط فرص العمل بالسكن، علاوة على توفير الخدمات بأسعار ملائمة وإتاحة وسائل التنقل بين المناطق وبعضها بعضاً بكلفة زهيدة، وبناء عديد من المشروعات التجارية والاستثمارية وتوسيع مجالات الأنشطة المحفزة على السكن".
ويؤكد استشاري التخطيط العمراني أن الإجراءات الميسرة التي منحتها الدولة في شأن التملك داخل المدن الجديدة خلال الآونة الماضية، "جعلت كثيراً من المواطنين يتكالبون على شراء الأراضي والوحدات السكنية بغرض الاستثمار والادخار لا السكن والمعيشة بها، مشيراً إلى أن غالب السكان داخل مصر "يميلون إلى السكن في الحضر لا المدن الجديدة، بسبب توافر عناصر ومقومات العيش والحياة فيها، مما يجعل الدولة مطالبة بمزيد من الإنفاق على المدن الجديدة لإيجاد حلول جادة لجذب السكان".
وعلى الوجه المقابل وبخلاف المسح العمراني، يعتقد متخصص الاقتصاد العمراني سيف الدين فرج أن هناك ارتفاعاً ملحوظاً في نسب الإشغال داخل غالب المجتمعات العمرانية الجديدة، إذ تصل في مدن مثل أكتوبر والشيخ زايد والشروق والعبور إلى أكثر من 60 في المئة، وداخل بعض المدن الأخرى التي لا يزال عمرها قصيراً نسبياً مثل "بدر" تصل إلى 45 في المئة.
ويوضح فرج خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن المدن الجديدة كان ينظر إليها خلال أوائل نشأتها أنها أشبه بـ"مدن أشباح"، لكن خلال الوقت الحالي تغيرت تلك الصورة بعدما توسعت الدولة في إنشاء الطرق والكباري ووسائل المواصلات، التي تعد أشبه بالشرايين التي تغذي تلك المجتمعات الجديدة.
وبحسب دراسة أعدها المرصد المصري التابع للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية نشرت خلال يونيو (حزيران) 2023، "كانت هناك محاولات خلال العقود الماضية على استحياء لتفريغ القاهرة وسحب جزء من التكدس السكاني بالقاهرة الكبرى إلى أطراف المدينة بمدن مثل الشروق وبدر و6 أكتوبر والعبور، وغيرها من المدن الجديدة التي بنيت خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إلا أنها "لم تنجح بالقدر الكافي" في تقليل الكثافة السكانية داخل المحافظات الحضرية، وبخاصة إقليم القاهرة الكبرى بوصفه الأكثر جذباً للسكان والهجرة الداخلية من مختلف المحافظات على مدار الأعوام.
وبحسب تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (جهة حكومية) منتصف يوليو (تموز) الماضي، أظهر أن أعلى نسبة سكان بالقاهرة تتمركز في المنطقة الشرقية بنسبة 39 في المئة، وتقدر بـ4 ملايين و19 ألفاً و154 نسمة، تليها المنطقة الجنوبية بـ32 في المئة بعدد 3 ملايين و252 ألفاً و277 نسمة من إجمال سكان المحافظة، ثم المنطقة الشمالية بـ18 في المئة وتقدر بمليون و821 ألفاً و765 نسمة ثم المنطقة الغربية بسبعة في المئة وعدد سكانها 757 ألفاً و538 نسمة.
ووفق التقرير فإن المدن الجديدة بها أقل نسبة سكان أربعة في المئة من إجمال المحافظة ويقدر عدد سكانها بـ449 ألفاً و87 نسمة، وهي مقسمة على التجمع الخامس 146 ألفاً و655 نسمة والتجمع الأول 97 ألفاً و913 نسمة، والشروق 94 ألفاً و228 نسمة والقطامية 76 ألفاً و523 نسمة وبدر 337 ألفاً و68 نسمة.
وأعلن رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي في تصريحات صحافية خلال نوفمبر 2023 أن مصر لديها أنجح تجربة على مستوى العالم في إنشاء المدن الجديدة، مردفاً "كنا نعيش على مساحة خمسة في المئة من مساحة الدولة، ولولا المدن الجديدة لذهب المواطنون إلى الأراضي الزراعية وانتشرت العشوائيات".