كان اسمه حامد، رجل في منتصف العمر، ملامحه تشبه ازقة المدينة القديمة؛ فيها ضيق، وفيها عمق، وفيها دائما ظل لا ينتهي.
في النهار، كان يجلس خلف مكتب في شركة لا يحبها، يوقّع اوراقا لا يفهم نصفها، ويبتسم في وجوه لا يطيقها.
وفي الليل، كان يواجه نفسه.
منذ شهور، بدأ يكتشف كذبات صغيرة كان يعيشها:
يقول انه راض وهو غاضب،
يدّعي انه متوكل وهو مشدود الاعصاب،
يتكلم عن الاخرة ولسانه يلهث خلف زيادة الراتب.
في مساء شتوي ثقيل، عاد الى بيته متعبا. دخل غرفة الجلوس، فوجد زوجته تقلب فواتير متراكمة، وابنه ينظر الى حاسوب قديم تعطل للمرة الثالثة، وابنته تطوي اوراقا عن جمعية ايتام تطلب المتبرعين.
قالت زوجته بهدوء متعب:
لو تبرعنا اقل، يمكن نغطي جزءا من الديون.
وسكتت.
نظر حامد الى الورقة في يد ابنته؛
قصة طفل يتيم ينتظر عملية بسيطة حتى يسمع جيدا.
قصة واحدة، لكن فيها اوجاع كثيرة.
جلس على حافة الكرسي، واحس ان في داخله ساحتين تتصارعان:
ساحة تقول: حافظ على مالك، انت غارق في الالتزامات.
وساحة اخرى تهمس:
هذه فرصتك ان تصدق، ان تجرّب هل انت تؤمن حقا ان ما عند الله لا ينفد.
امتدت يده الى محفظته بتثاقل.
اخرج مبلغا كان يدخره لاصلاح سيارته، وضعه في ظرف، واعطاه لابنته.
قال لها وهو يتجنب عينيها:
خذيها للجمعية غدا.
في تلك الليلة لم يستطع النوم.
كان يشعر بشيء غريب؛
شيء بين الوجع والخفة.
قبل الفجر بساعة، استيقظ من غير منبه.
نظر الى الساعة، ثم الى السقف.
في داخله صوت يقول:
المال خرج، فهل تخرج انت من خوفك ايضا؟
قام، توضأ، وفتح نافذة صغيرة تطل على الحارة.
المدينة نائمة، الا من عمود نور في زاوية الشارع، وصوت بعيد لسيارة تمر بلا معنى.
جلس على سجادته، وبدأ يردد كلمة واحدة لم يكن يتذوقها من قبل:
استغفر الله
استغفر الله
استغفر الله
في البداية قالها بلسانه اكثر مما قالها بقلبه.
ثم بدأت صور تمر في ذهنه:
وجه الطفل اليتيم،
فواتير بيته،
تعب زوجته،
اكاذيبه الصغيرة مع نفسه.
كل صورة كانت تسقط من فوق قلبه مثل حجر صغير، وفي كل مرة يردد بعدها:
استغفر الله.
لم يطلب شيئا محددا في تلك الساعة؛
لم يقل: ارزقني، اشفني، اغنني.
كل ما كان يملكه جملة واحدة مكسورة:
يا رب، تاخرت كثيرا.
شيئا فشيئا، شعر ان الغرفة تضيق على جسده وتتسع لقلبه.
الصمت من حوله لم يعد فراغا مخيفا، بل صار مثل حضن واسع.
هو لا يسمع الا همسه، ولا يشعر الا بنبض قلبه وهو يبطئ، وكأن احدا يربت عليه من الداخل.
في تلك اللحظة، فهم دون ان يفكر:
ان المال الذي خرج لم يكن خسارة،
كان تذكرة عودة.
التضحية الصغيرة التي قام بها في المساء، فتحت بابا في الفجر لم يكن ينتبه لوجوده.
الاستغفار الذي يردده الان ليس حركة لسان فقط، بل رجوع الى "عش" قديم، عش كان يسكنه وهو طفل حين كان يبكي فيسكت بمجرد ان يضع راسه على ركبة امه.
الفرق الوحيد ان الركبة الان غيب، لكن الدفء نفسه.
وهو جالس بين يدي الله قبل الفجر، اكتشف شيئا غريبا:
انه لم يعد يفاوض.
لا يساوم على قدر، لا يحاسب على ماذا اخذ الله وماذا ابقى.
هناك استسلام هادئ تسلل اليه، ليس استسلام المهزوم، بل تسليم من عاد اخيرا الى البيت بعد رحلة طويلة من العناد.
في الايام التالية، لم تتغير حياته الخارجية كثيرا:
الشركة هي الشركة، الشارع هو الشارع، الفواتير ما زالت تأتي.
لكن شيئا في داخله توقّف عن الصراخ.
صار قيامه في السحر عادة،
وصار اخراج المال – ولو قليلا – عادة اخرى.
ومع كل استغفار، ومع كل تضحية صغيرة، كان يشعر ان شيئا يترسخ في قلبه:
قنوت لا يشبه الخوف،
وطاعة لا تشبه القيد،
وسكينة تشبه تماما العودة لعش دافئ في شتاء بارد.
مرة قال لصديق له في المقهى، وهو يحرّك فنجان القهوة ببطء:
الغريب يا فلان، اني لم اعد اشعر اني اصبر.
كأن الصبر اختفى، وبقي الرضا.
ضحك صديقه:
كيف يختفي الصبر؟
هز حامد كتفيه، ونظر من نافذة المقهى الى مئذنة بعيدة تلمع في الافق:
يمكن لما توصل، ما تعود تحس بطول الطريق.
تحس بس الابواب المفتوحة.