حين بكت السماء: ملحمة وداع لا تُنسى ... قصة وفاة حسن العشماوي
في ليلة من ليالي الصيف اللاهبة، حين كان الهواء يغلي تحت وطأة شمسٍ لا تعرف الرحمة، خُطَّت في الأقدار ملحمة الموت. هنا حيث الأزمنة تتداخل، والأنفاس تتصارع مع الحزن، علت الحكاية التي تروي لقاء الحب والرهبة في أعتى تجليات المصير الإنساني.
كان الأب المكلوم جسدًا يفرغ دمه كما لو أنه يقدمه قربانًا لصراعٍ محتوم، وكأن أوردته فوهاتٌ تسيل منها الحياة نفسها. كان النزف حديث النهار والليل، والقلوب ترزح تحت وطأة البكاء الصامت، والليل شاهد على انسكاب الدموع ودعواتٍ ارتفعت كأنها تناجي السماء نفسها أن تبقي الروح في الجسد المنهك.
وفي حجرةٍ تشهد على عجز البشر أمام القضاء الإلهي، نطق الطبيب بكلماتٍ هوت كالسيف: "لن نمنحه مزيدًا من جرعات الدم." كانت اللحظة كأنها انشقاق بين الحياة والموت، حيث يعلن القدر سطوته على كل شيء. اتصلت بأخي في مغتربه البريطاني، ابلغه الخبر الذي لا يحتمل تأجيلاً، وكأن الكلمات هي نفسها توديع الروح قبل أن تفارق الجسد.
في الغرفة التي غدت محرابًا للوداع، التفتنا حول سرير الأب، كلٌ يحمل مشاعرًا لا حصر لها؛ بين خوفٍ يتصاعد، وحبٍ يئن، وتسليمٍ لمشيئة الله التي لا ترد. بدأ المحتضر يرى ما لا نراه، وصارت الدنيا تضيق أمام ما يفتح له من آفاق الآخرة. كانت تلاوات القرآن تهزُّ أركان الغرفة، وتتعالى الأذكار كأنها تستنهض الملائكة لتحضر المشهد.
ثم، وسط صمت الكون، حدث ما أذهل الجميع؛ تلبدت السماء بالغيوم، كأنها تخبئ شيئًا وراءها، وبدأ المطر يهطل بغزارة لم يألفها صيف الصحراء. بدا وكأن الطبيعة تبكي لرحيل الروح الطاهرة. صرخت الأخت الصغرى: "أبي بلا نبض ولا نفس!" ولكن الابن الأكبر وقف، عينيه تغرقان بدموعٍ انهمرت كما لو أنها الأمطار نفسها، دموعٌ صامتة تحمل كل الكلمات التي عجز عنها لسانه.
كانت الأم، تلك الشريكة في الألم والصبر، بجواره كأنها سند أخير، لكنها لم تتحمل عبء الرحيل. سقطت مغشيًا عليها، وكأن قلبها لم يطق رؤية الرجل الذي عاشته وفقدته في آن. كانت اللحظات تمضي كأنها دهور، تحمل معها ثقل الفقد ووهج الذكرى.
ورحل الأب، حسن بن مصطفى العشماوي، الرجل الذي لم يعرف اللسان منه غيبة، ولم يعرف الناس منه إلا صلاحًا وتسبيحًا. رحيله لم يكن موتًا فحسب، بل انطفاءً لجذوة كانت تنير الحياة لمن حوله. وبعد عشرين عامًا، لا يزال الابن يطوف في متاهات الحياة باحثًا عن الجزء الذي فارق روحه مع رحيل أبيه.
اللهم ارحم حسن بن مصطفى العشماوي، واجعل له في قبره نورًا لا ينقطع، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، واملأ قلب ابنه بردًا وسلامًا، حتى يلتقي من جديد بأبيه في دار الخلود.
انقر للتقييم